الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب نفي الاختيار عن العبد: هذا، وفي ظاهر هذه الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية ومن أثبت للعبد اختيارا قال إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها اللّه تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه الإمام العلامة الدّواني، قال الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق اللّه تعالى الفعل فيه وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له ورغبة فيه، وتصور له وقصد، وهذا هو الاختيار، والمعنى واللّه أعلم، أن هؤلاء الذين يقترحون عليك الاقتراحات ويتمنون الأماني كما حكى اللّه عنهم في الآية 6 فما بعدها من سورة الفرقان المارّة وغيرها لا يليق بهم أن يتجاوزوا على اللّه ويتحكموا في طلباتهم لأن الكلام مسبوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه باللّه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة، كما يرمز إليه قوله آنفا {ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ}.أما ما قيل ان هذه الآية نزلت ردا على قول الوليد بن المغيرة {لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الآية 31 من الزخرف في ج 2 فغير وجيه لأن هذه الآية لم تنزل بعد ولم يتفوّه بمقالته هذه بعد، وكذلك ما قيل إنها نزلت ردا لقول اليهود: لو كان الرسول إلى محمد غير جبريل لآمنا به كما سنفصّله في الآية 38 من سورة البقرة في ج 3، لأن هذه الآية مكية بالاتفاق وليس بين اليهود وحضرة الرسول أخذ ورد في مكة، ولا يصح جعل ما في قوله تعالى: {ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} موصولة باعتبارها مفعولا ليختار، أي يجعل الوقف على ما يشاء والابتداء بقوله ويختار وتسليطه على ما باعتبارها مفعولة، وعليه يكون المعنى ويختار الذي فيه الخير والصلاح لهم على أن يكون ذلك الاختيار بطريق التفضل والكره عند أهل السنة والجماعة، وبطريق الوجوب عند المعتزلة، بل ما في الآية نافية، لأن اللغة لا تساعد أن تكون الخيرة بمعنى الخير، ولأن قوله تعالى بعد {سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} لا يناسب المقام، كما أنه لا يناسب ما قبله وهو {يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ} على الإطلاق لأن في حصره بالأصلح قيدا واللّه منزه عن القيد، ولأن فيه حذف العائد إذا جعلت ما بمعنى الذي، فيحتاج إلى ضمير يعود اليه، إذ لاتتم الآية، ولا يوجد، ولمخالفته ظاهر الآية، تدبر، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} تخفيه من عداوة لك يا محمد {وَما يُعْلِنُونَ} 69 منها فيما بينهم من قولهم هلا اختار اللّه غير هذا للنبوة، قاتلهم اللّه ما كان لهم الخيرة من أمرهم، فكيف يتمنون على اللّه الأماني ويعترضون عليه، راجع تفسير الآية 134 من سورة الأنعام في ج 2 {وَهُوَ اللَّهُ} المستأثر بالإلهية والاختيار وحده وجملة {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} تقرير لاختصاصه بها كقولك القبلة الكعبة لا قبلة غيرها، لا كقولهم الحج عرفة، لأن عرفة معظم الحج لا كله وهذا الإله المنزّه المنفرد بالألوهية المتصرف بجميع ما في الكون ناميه وجامده، جوهره وعرضه {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى} أي الدنيا لأنها قبل الآخرة {وَالْآخِرَةِ} لكونها بعد الدنيا، أما البرزخ الكائن بينهما فهو حاجز غير حصين لانتهائه بها، ومن هذا الحمد قول السعداء في الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الآية 33 من سورة فاطر المارة و{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ} الآية 36 من سورة الزمر في ج 2 وقوله آخرها {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} وهذا الحمد على طريق التلذّذ لا التكليف لانتهائه بالآخرة {لَهُ الْحُكْمُ} القطعي بين الخلائق فيهما وحده لارادّ له ولا معقّب {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كلكم أيها الخلق بعد الموت وتحضرون بين يديه بعد النشور لتفهيم هذا الحكم فيا أكرم الرسل {قُلْ} لقومك الذين يتدخلون في ما لا يعنيهم {أَرَأَيْتُمْ} أخبروني أيها الناس {إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا} مطّردا دائما لا نهار معه {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ} نهار تطلبون فيه معاشكم وتنتشرون فيه لمصالحكم {أَفَلا تَسْمَعُونَ} 71 قول اللّه فتذعنون إليه وتؤمنون به.قال بضياء ولم يقل بنهار كالآية الآتية إذ قابل النهار بليل، لأن منافع الضياء لا تقتصر على التصرف بالمعاش والمصالح بل هي كثيرة، والظلام ليس بتلك المنزلة، لذلك قرن بالضياء السمع لأنه يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه، ووصف فوائده، ونعت طرائقه، وهو أفضل منه بدليل تقديمه على البصر في القرآن لأن الأصم لا يستفاد من مجالسته البتة، بخلاف الأعمى، وقرن بالليل البصر لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت، قال تعالى: {قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَدًا} لا ليل معه مستمرا متتابعا {إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} تنامون وتستريحون فيه من مشاق النهار وعناء التعب {أَفَلا تُبْصِرُونَ} 72 هذه الشواهد العظيمة الدالة على قدرة الإله القادر، فتقفوا على معانيها وتفهموا المراد منها وتتيقنوا أن لا أحد يقدر عليها غيره تعالى، فيتّضح لكم خطأكم بعبادة غيره وترجعون إليه تائبين، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ويعفو عما قبلها {وَمِنْ رَحْمَتِهِ} لكم {أن جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ} منقطعا عن النهار بقدر معلوم {وَالنَّهارَ} كذلك وجعلهما يتعاقبان بالظلمة والضياء {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي الليل {وَلِتَبْتَغُوا} في النهار {مِنْ فَضْلِهِ} لتأمين حوائجكم {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} 73 نعم اللّه المتوالية عليكم فيها، وتعرفون حق المنعم بها فتؤمنون به، إذ لو جعل الظلمة متصلة والضياء متصلا لحرمتم منافع ولذات كثيرة، ولما استقام لكم أمر معاشكم.وكلمة سرمدا لم تأت إلا في هذه السورة فقط، ثم كرر النداء للمشركين زيادة في توبيخهم وتقريعا على إصرارهم لعلهم ينتبهون فينتهون بقوله: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ} على ملاء الأشهاد {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} 74 تقدم تفسير مثله، وإن زعم تتعدى لمفعولين كقوله:وقد حذف في الآية هذه مفعولي زعم أيضا، ولك أن تقول فيها كما هو في الآية 64 المارة. .مطلب في أنواع البديع التفسير ولمقابلة وقصة قارون: وجاء في الآية 73 المارة من أنواع البديع اللف والنّشر المرتب، ويسمى التفسير من أقسام المعنوي في تحسين وجوه الكلام، ومنه المقابلة كقوله:وجاء مثله في القرآن بقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى} لآخر الآيات من سورة والليل المارة، قال تعالى: {وَنَزَعْنا} أفردنا وميزنا وأخرجنا {مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ} من الأمم السالفة {شَهِيدًا} يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصحهم، لأن الأنبياء هم شهداء الأمم فيما لهم عليهم يوم القيامة {فَقُلْنا لهم} أي نقول للأمم المكذبة يوم القيامة {هاتُوا بُرْهانَكُمْ} على أن للّه شريكا بينوا حجتكم على صحة دعواكم هذه وما كنتم تدينون به في الدنيا فصمتوا، إذ لا دليل لهم على ذلك ولا امارة {فَعَلِمُوا} حينذاك {أَنَّ الْحَقَّ} في الإلهية كله {لِلَّهِ} وحده {وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} 75 من دعوى الشرك، وجاء الفعل هنا بالماضي لتحققه، وهكذا كل ما هو محقق وقوعه، وكرر جل شأنه اللائمة على المشركين، لأنه لا شيء أجلب لغضبه من ادعاء الشرك، كما لا شيء أدخل في مرضاته من التوحيد، قال تعالى: {إِنَّ قارُونَ} بن يصهر بن قاهت {كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى} قيل هو ابن عمه، لأن موسى بن عمران بن قاهت ابن لاوى بن يعقوب عليه السلام، وكان عالما لا أقرأ منه في التوراة، ولكنه نافق مثل السامري، ومثل يهوذا الأسخريوطي من حواري عيسى، وعبد اللّه بن أبي بن سلول من أصحاب محمد، راجع الآية 30 من سورة الفرقان المارة، والآية 11 من سورة الأنعام في ج 2 {فَبَغى عَلَيْهِمْ} على بني إسرائيل لأنه كان عاملا عليهم {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ} الذهب والفضة المدّخرة {ما إِنَّ مَفاتِحَهُ} مفاتح خزائنه إذا جعلته جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به، وإذا جعلته جمع مفتح بفتحها فيكون مفاتحه خزائنه وهي المحال التي يدخر فيها المال، وما موصولة في محل نصب بآتيناه، وأن اسمها وخبرها وهو {لَتَنُوأُ} تثقل لا محل لها من الإعراب صلة الموصول وهو ما، ولهذا كسرت إن هنا {بِالْعُصْبَةِ} الجماعة الكثيرة {أُولِي الْقُوَّةِ} لا الضعفاء، والعصبة ما بين الثلاثة إلى الأربعين، قال ابن عباس كان يحمل مفاتحه أربعون رجلا، وقال غيره على ستين بغلا ولا يزيد قدر الواحد على الإصبع، فإذا كانت المفاتيح هكذا فما مقدار تلك الكنوز؟ وإذا كان عاملا من عمال فرعون عنده هذا القدر فما هو مقدار الذي عند فرعون؟ ومع هذا كله يناوئون اللّه.فلذلك أخذهم، واذكر يا محمد لقومك قصته {إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} بحطام الدنيا وتبطر على قومك وتمرح بملك، فإنه زائل والفرح مذموم {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} الأشرين الذين لا يشكرون نعم اللّه، قالوا له ذلك لما رأوا من زيادة تكبره وتعاظمه عليهم وإطالة ثيابه خيلاء، قال تعالى: {وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} الآية 23 من سورة الحديد ج 3 لأنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها أما من يعلم أنه سيفارقها فلا يفرح بها، ولقد أحسن أبو الطيب المتبني في قوله: وقال ابن شمس الخلافة: والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير ويقولون: هذا ويشير نفي محبة اللّه لمثل هؤلاء إلى بغضه لهم وكراهته إياهم، لأن من لا يحبه اللّه يبغضه، وينّبه إلى أن عدم المحبة كاف في الزجر عما نهى اللّه عنه.{وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ} من المال في هذه الدنيا {الدَّارَ الْآخِرَةَ} بأن تنفق منه لأجلها مرضاة الذي أعطاكه وشكرا لنعمه {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا} كي تنجو من عذاب الآخرة.
|